الثورة الانقلابية
بقلم: الشيخ محمد الأزيرجاوي
للسلطه التنفيذية علي مختلف الازمنة والامكنة، نظم ودساتير كفيلة بحفظ الحقوق وصون الكرامات وسلامة الحريات وقمع كل ماهو مخل بالنظام واستأصاله من جذوره وإرجاع كل شيء إلی نصابه وايجاد جو مشبع بالخير والرضا والطمأنينة بين الأفراد والجماعات كما تسير عجله التاريخ علی ضوء العدالة والنزاهة. أما اذا كانت الأوضاع علی النقيض من ذلك بمعنی أنّ السلطة جائرة والحکومة غاشمة ولا سلاح للسياسة إلاّ التهديد والتوعيد والاضطهاد والاستبداد وقد أصبحت طرائق التفاهم شائكة المسالك ملتوية المخارج. فما أقصر عمر تلك الحکومة وما أسوء حظ ذلك المجتمع الأعرج الذي ينهض مرة ويكبو مراراً، وما أوبه للانهيار والبوار. لکثرة الويلات وتعالی الصيحات والصرخات. وناهيك بما لهذه الأنات من الأثر الموجع علی شعور الافذاذ من حزب المعأرضين المخلصين الذين تسيئهم أن تطوح ببلادهم هذه العواصف والأراجيف وتصل بها لمثل هذه المراحل الخطيرة. وهنا تقضي المصلحة عليهم بمناوئة الطبقة الحاكمة ذات السلطان العظيم والجاه العريض، التي لا يسعها التنازل لتلبية مطإلیب المستمرين لأنها تعد ذلك استهانة بكرامتها وتصرفاً غير لائق بكيانها وإمكانياتها. ومن ذلك الضغط الشديد وهذا الخلاف البعيد تقع ما نسميها (بالثورة الانقلابية) كما نجدها مكررة أكثر من مرة في الوقت الحاضر أو كحادثة الطف في الزمن الغابر. الحادثة التي – لم تطلع الشمس علی أخت لها والتي كان بطل مسرحيتها ابن علي عميد الهاشميين الذي يؤمن بدين جده الرسول الكريم:
أيها الناس قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا.
ويزيد بن معاوية عميد الأمويين المؤمن بشرع جده أبي سفيان: تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الكرة فما من جنة ولا نار ولا حشر ولا نشر ولا حساب ولا عقاب- نعم لهذا يزيد تعطی مقإلید الأمة وهو الذي يتولی شؤون المسلمين وباسمة تعج الأندية أميراً للمؤمنين. فتتمتع بجميع الحقوق والامتيازات التي كانت للرسول الكريم. وإذا به يرقي المنبر نشواناً ويخطب الناس ثملاً سكراناً فيمط الشفاه لهذا الأمر جمع من الناس ويقول علی الدين العفا آخرون. وأصبح الظرف عصيباً والوضع مريباً. خصوصاً والناس قريبو عهد من عصر الرسالة بل هم في قرن النبوة الذي تحيطه هالة الروحانية وجلال القداسة مع وجود الأكفّاء لتحمل خطورة هذه المسؤولية التي لا تليق لغلام طريد كيزيد الذي لا يفقه معنی الإسلام وبليغ سره؛ نظراً لبعد نشأته عن الحضارة الإسلامية ولتربيته النصرانية من جانب أمّه التي أو كلت أمر تعالیمه لمن لايؤمن بمعالم الإسلام ونبيل اغراضه. لذلك كانت نزعته تهزأ من الدين وأهله وتسخر بالرسالة ومن جاء بها. فانتهك الحرمات واستباح المقدسات دون أن يعبأ برادع أو وازع لأنه يحسب أنّ سلطانه لم يكن منشؤه السلطة الدينية وإنما هو الملك العضوض الذي يورثه عن أبيه معاویة هذا والعاصمة الأموية تعج بالوفاد والقصاد للاطلاع علی ما آل إلیه امرهم بعهد خليفتهم الجديد. وإذا بهم أول ما تطلع عليه أنظارهم أن يجدوا الأمير في ضواحي دمشق يتنقل بين رياض -الغوطة- ومروجها تحف به حاشيته الکریمة التي لا تحسن إلا العزف والقصف والتي أخذت علی مسؤوليتها انعاش روح الزعيم الديني وبسط نفسه علی رقص القيان وأنغام الحسان ووسوسه الجسام. الحالة التي لم يصل لأقل من بعضها امرؤ القيس طريد أبيه، والذي انتقمت من وضعه نظم الجاهلية الخرقاء، وإلی غير ذلك من الأموال التي لم يعرفها الصحابة. التي أوجبت علي سيد الشهداء وأبي الضيم يستعجل النضال ويندد بهذا العرش الكاذب وينكر سلطان أمية المزعوم في دمشق والحجاز وجميع الأقإلیم الإسلامية ثم يبارح يثرب ميمماً وجهة شطر العراق. فيقف علی شاطئ الفرات وعلی صعيد الغاضريات معلناً ثورته الحمراء ومن حوله عصبة المساعير الأطياب من بنيه وصحبه الكرام. شاهرين سيوف الحق علی المردة العتاة، حتی جاد أبو المكرمات بأعلا ما يملك وأنفس ما يقتني وهو يقول:
(والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد فإن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم).
إذ لا شيء عنده أثمن من الحریة (ونفسي فداه) فكان أوّل غيثه في سبيل مبدأ الحریة أن يملأ راحتیه الكريمتين بدم الرضيع الأصغر. ثم يلحق به نجله الأكبر ليكون هدف الأسنة وغرض البواتر، وهو أربط جأشاً من كل خلق الله وكأن ذلك غير كاف حتی يتخطی للمنية بشخصه المقدس فيجعل لكل سلاح حصة بأوصاله الکریمة وطعمة من أشلائه الطيبة، وبهذا ومثله كادت أن تنكشف العاصفة وينتهي المطاف.
وإذا ببنت الأنزع البطين تبرز من بين أخبية الخفرات من بنات علي وهي تهزأ بالقضاء الأموي. لتقف علی جسد أخيها الموزع قائلة له لك الجنة أبا الاحرار ثم تصعد ببصرها نحو السلام منادية:
)اللهم تقبل منا هذا القربان(.
ثم تدير وجهها لأجداث الصحابة ومن بينهما بطل العلقمي فتردد (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يرْزَقُونَ)
وبعدها تلتفت لابن سعد وعبيد الانذال فتقرعه بآيه اخری من التنزيل:
)وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يعْمَلُ الظَّالِمُونَ(
فكانت المرأة التي زهدت الحياة في نفوس اهلها وحقرت الدنيا عند طلابها ثم ترجع عليها السلام لحرمها ظافرة بخصمها مطمئنة من نفسها بعد ان أدت واجبها المقدس ورسالتها الدينية لعلمها ان المعركة انتهت ببصقة كبيرة بوجه الفرعون الأموي الذي اكسبته العار والصغار.
وهكذا يلقي أبو الاحرار درس الحياة علی الأجيال ليكون عظة وعبرة لعشاق الفضیلة وطلاب الخلود. وما أحرانا لان نقتبس فيضاً من تلك الدروس البليغة لشحذ هممنا وصون أعراضنا وحفظ بلادنا التي طمع فيها حتی منبوذي العالم شراذم إلیهود وهاهم إلیوم يبطلون العهود ويداهمون الحدود ويغيرون نهر الأردن عن طبيعة مجراه والعالم المسلم مكتوف الأكف مغلول الأيادي. لتقصير ساسة العرب والمسلمين ذوي المسؤولية من أرباب المناصب الذين اقتنعوا بنعيمهم الزائل ومجدهم المزيف الذي شيدوه علی مناكب عبيدهم الأحرار من أبناء جنسهم وجنسيتهم. رحماك أبا الاحرار نفحة من جلال قدسك تبعث فينا معاني الحياة ومباهج السعادة من جديد(1).
________________________________________
1- مجلة الغري -النجف-العدد-2- السنة الخامسة عشرة-1953/ص35.
لینک کوتاه
سوالات و نظرات